الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وجملة: {نَعْمَ أجر العَاملين}. إلخ.إنشاء ثناء وتعجيب على الأجر الذي أعطُوه، فلذلك قطعت عن العطف.وقوله: {الذينَ صَبَرُوا} خبر مبتدأ محذوف اتباعًا للاستعمال والتقدير: هم الذين صبروا.والمراد: صبرهم على إقامة الدين وتحمل أذى المشركين، وقد علموا أ، هم لاقوه فتوكلوا على ربهم ولم يعبأوا بقطيعة قومهم ولا بحرمانهم من أموالهم ثم فارقوا أوطانهم فرارًا بدينهم منالفتن.ومن اللطائف مقابلة غشيان العذاب للكفار من فوقهم ومن تحت أرجلهم بغشيان النعيم للمؤمن من فوقهم بالغرف ومن تحتهم بالأنهار.وتقديم المجرور على متعلقة من قوله: {وعلى ربهم يتوكلون} للاهتمام.وتقدم معنى التوكل عند قوله: {فإذا عزمت فتوكل على الله} في سورة آل عمران (159).{وَكَأَينْ منْ دَابةٍ لَا تَحْملُ رزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإياكُمْ وَهُوَ السميعُ الْعَليمُ (60)}.عطف على جملة {كل نفس ذائقة الموت} [العنكبوت: 57] فإن الله لما هون بها أمر الموت في مرضاة الله وكانوا ممن لا يعبأ بالموت علم أ، هم يقولون في أنفسهم: إنا لا نخاف الموت ولكنا نخاف الفقر والضيعة.واستخفاف العرب بالموت سجية فيهم كما أن خشية المعرة من سجاياهم كما بيناه عند قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء: 31] فأعقب ذلك بأن ذكرهم بأن رزقهم على الله وأنه لا يضيعهم.وضرب لهم المثل برزق الدواب، وللمناسبة في قوله تعالى: {إن أرضي واسعة} [العنكبوت: 56] من توقع الذين يهاجرون من مكة أن لا يجدوا رزقًا في البلاد التي يهاجرون إليها، وهو أيضًا مناسب لوقوعه عقب ذكر التوكل في قوله: {وعلى رَبهم يَتَوكلون} [العنكبوت: 59] ، وفي الحديث: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطَانًا» ولعل ما في هذه الآية وما في الحديث مقصود به المؤمنون الأولون، ضمن الله لهم رزقهم لتوكلهم عليه في تركهم أموالهم بمكة للهجرة إلى الله ورسوله.وتوكلهم هو حق التوكل، أي أكمله وأحزمه فلا يضع نفسه في هذه المرتبة من لم يعمل عملهم.وتقدم الكلام على {كأين} عند قوله تعالى: {وكأين من نبيء قُتل معه ربيون كثير} في سورة آل عمران (146).وقوله: {وكأين من دابة لا تَحْمل رزْقها} خبر غير مقصود منه إفادة الحكم، بل هو مستعمل مجازًا مركبًا في لازم معناه وهو الاستدلال على ضمان رزق المتوكلين من المؤمنين.وتمثيله للتقريب بضمان رزق الدواب الكثيرة التي تسير في الأرض لا تحمل رزقها، وهي السوائم الوحشية، والقرينة على هذا الاستعمال هو قوله: {الله يرزقها وإياكم} الذي هو استئناف بياني لبيان وجه سوق قوله: {وكأين من دَابةٍ لا تَحْمل رزْقها} ولذلك عطف {وإياكم} على ضمير {دابة} والمقصود: التمثيل في التيسير والإلهام للاسباب الموصلة وإن كانت وسائل الرق مختلفة.والجمل في قوله: {لا تحمل رزقها} يجوز أن يكون مستعملًا في حقيته، أي تسير غير حاملة رزقها لا كما تسير دواب القوافل حاملة رزقها، وهو علفها فوق ظهورها بل تسير تأكل من نبات الأرض.ويجوز أن يستعمل مجازًا في التكلف له، مثل قول جرير:حُملت أمرًا عظيمًا فاصطبرت له.أي لا تتكلف لرزقها.وهذا حال معظم الدواب عدا النملة والفأرة، قيل وبعض الطيركالعقعق.وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {الله يرزقها} دون أن يقول: يرزقها الله، ليفيد بالتقديم معنى الاختصاص، أي الله يرزقها لا يغره، فلماذا تعبدون أصنامًا ليس بيدها رزق.وجملة {وهو السميع العليم} عطف على جملة: {الله يرزقها وإياكم}.فالمعنى: الله يرزقكم وهو السميع لدعائكم العليم بما في نفوسكم من الإخلاص لله في أعمالكم وتوكلكم ورجائكم منه الرزق. اهـ.
ثم يقول سبحانه: {فَإيايَ فاعبدون} [العنكبوت: 56] فإنْ أخذنا بمبدأ الهجرة فلابد أن نعلم أن للهجرة شروطًا أولها: أنْ تهاجر إلى مكان يحفظ عليك إيمانك ولا ينقصه، وانظر قبل أنْ تخرج من بلدك هل ستتمكن في المهجر من أداء أمور دينك كما أوجبها الله عليك؟ فإنْ كان ذلك فلا مانع، وإلا فلا هجرةَ لمكان يُخرجني من دائرة الإيمان، أو يحول بيني وبين أداء أوامر ديني.وهل يُرضيك أنْ تعيش لتجمع الأموال في بلاد الكفر، وأنْ تدخل عليك ابنتك مثلًا وفي يدها شاب لا تعرف عنه شيئًا قد فُرض عليك فَرْضًا، فقد عرفته على طريقة القوم، ساعتها لن ينفعك كل ما جمعت، ولن يصلح ما جُرح من كرامتك.وسبق أن أوضحنا أن الهجرة قد تكون إلى دار أَمْن فقط، حيث تأمن فيها على دينك، وتأمن ألا يفتنك عنه أحد، ومن ذلك الهجرة التي أمر بها رسول الله إلى الحبشة، وهي ليست أرْضَ إيمان، بل أرض أَمْن.وقد علل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالهجرة إليها بقوله: «إن فيها مَلكًا لا يُظْلَم عنده أحد» وقد تبين بعد الهجرة إليها صدْق رسول الله، وكأنه على علم تام بالبيئة المحيطة به وبأحوال أهلها.لذلك لم يأمرهم مثلًا بالهجرة أو أطراف الجزيرة العربية؛ لأنها كانت خاضعة لقريش بما لها من سيادة على الكعبة، فلا يستطيع أحد أنْ يحمي مَنْ تطلبه قريش، حتى الذين هاجروا بدينهم إلى الحبشة لم يَسْلَموا من قريش، فقد أرسلتْ إلى النجاشي مَنْ يكلمه في شأنهم، وحملوا إليه الهدايا المغرية ليسلمهم المهاجرين من المؤمنين بمحمد، لكن لم تفلح هذه الحيلة مع الملك العادل الذي راود الإيمانُ قلبه، فأحب المؤمنين ودافع عنهم ورفض إعادتهم ويقال: إنه آمن بعد ذلك، ولما مات صلى عليه رسول الله.أما الهجرة إلى المدينة بعد الهجرة إلى الحبشة فكان لدار أَمْن وإيمان معًا، حيث تأمن فيها على دينك، وتتمكن فيها من نشره والدعوة إليه، وتجد بها إخوانًا مؤمنين يُواسُونك بأموالهم، وبكل ما يملكون، وقد ضرب الأنصار في مدينة رسول الله أروع مثل في التاريخ في المواساة، فالأنصاري كان يرى أخاه المهاجر ترك أهله في مكة، وله إرْبة وحاجة للنساء، فيُطلق له إحدى زوجاته ليتزوجها، فانظر ماذا فعل الإيمان بالأنصار.وفي قوله سبحانه: {فَإيايَ فاعبدون} [العنكبوت: 56] أسلوب يُسمونه أسلوب قَصْر، مثل قوله تعالى: {إياكَ نَعْبُدُ وَإياكَ نَسْتَعينُ} [الفاتحة: 5].وفَرْق بين أنْ نقول: نعبدك. و{إياك نعبد} نعبدك لا تمنع أنْ نعبد غيرك، أما {إياك نَعْبد} فتقصر العبادة على الله- عز وجل-، ولا تتجاوزه إلى غيره.فالمعنى- إذن: إنْ كنت ستهاجر فلتكُن هجرتك لله، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: «فَمْن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَنْ كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».ثم يقول الحق سبحانه: {كُل نَفْسٍ ذَآئقَةُ الموت}.يعني: إنْ كنتم ستقولون- وقد قالوا بالفعل- ليس لنا في المدينة دار ولا عقار، وليس لنا فيها مصادر رزق، وكيف نترك أولادنا وبيئتنا التي نعيش فيها، فاعلموا أنكم ولابد مفارقون هذا كله، فإنْ لم تُفارقوها وأنتم أحياء فسوف تفارقونها بالموت؛ لأن {كُل نَفْسٍ ذَآئقَةُ الموت} [العنكبوت: 57].ومَنْ يدريكم لعلكم تعودون إلى بلدكم مرة أخرى، كما قال الله لرسوله: {إن الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدكَ إلى مَعَادٍ} [القصص: 85].وعلى فَرْض أنكم لن تعودوا إليها فلن يُضيركم شيء؛ لأنكم لابد مفارقوها بالموت. وكأن الحق تبارك وتعالى يخفف عنهم ما يلاقونه من مفارقة الأهل والوطن والمال والأولاد.كما أننا نلحظ في قوله سبحانه: {كُل نَفْسٍ ذَآئقَةُ الموت} [العنكبوت: 57] بعد {إن أَرْضي وَاسعَة} [العنكبوت: 56] أن الخواطر التي يمكن أن تطرأ على النفس البشرية حين يُشرع الله أمرًا يهيج هذه الخواطر مثل {إن أَرْضي وَاسعَة} [العنكبوت: 56] وما تثيره في النفس من حب الجمع والتملك يجعل لك مع الأمر ما يهبط هذه الخواطر.
|